فصل: باب الْكَلَام فِي حكم أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل:

اعْلَم أَن الْكَلَام على ثَلَاثَة أَقسَام:
فَمِنْهُ المستقل بِنَفسِهِ نصا أَو فحوى، فَهُوَ بَيَان فِي نَفسه، وَلَا حَاجَة لَهُ إِلَى بَيَان.
وَالضَّرْب الثَّانِي: من الْكَلَام مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ من وَجه ويفتقر إِلَى بَيَان وَجه. وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فثبوت إيتَاء الْحق على الْجُمْلَة بَيَان وتفصيل الْحق وَقدره وكيفيته مُجمل مفتقر إِلَى الْبَيَان.
وَالضَّرْب الثَّالِث: من الْكَلَام مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ بِوَجْه أصلا، وَهَذَا نَحْو اللَّفْظَة المستعملة مجَازًا المنقولة عَن أصل الْوَضع فَإِذا وَردت مثل هَذِه اللَّفْظَة وَلم يغلب اسْتِعْمَالهَا مجَازًا فَهِيَ مجملة تفْتَقر إِلَى بَيَان من كل وَجه وَلَيْسَت بِبَيَان فِي نَفسهَا.

.القَوْل فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاج إِلَى وَقت الْحَاجة:

اعْلَم أَن أَرْبَاب الشَّرَائِع أجمعوإ على ان الْبَيَان لَا يُؤَخر عَن وَقت الْحَاجة فِي قَضِيَّة التَّكْلِيف ويتبين ذَلِك أَن الْأَمر إِذا تعلق بالمكلف على التَّضْيِيق من غير فسحة فِي التَّأْخِير وَلَا يسْتَقلّ الْمَأْمُور بِهِ دون بَيَان، لَا يسوغ تَأْخِير الْبَيَان عِنْد تحقق هَذِه الْحَاجة الَّتِي وصفناها إِلَّا على اصل من يجوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق على مَا نومىء إِلَيْهِ فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ولسنا نتعلق فِي إِيجَاب ذَلِك بِمَا تنطق بِهِ الْقَدَرِيَّة فِي فَاسد أُصُولهَا فِي التَّعْدِيل والتجوير والتحسين والتقبيح بيد أَنا نقُول يلْتَحق ذَلِك بالمحالات، فَإِن الْأَمر إِذا تعلق بالمكلف على التَّضْيِيق وامتثاله مَشْرُوط بِمَا لم يتَبَيَّن كَانَ ذَلِك محالا نازلا منزلَة تَكْلِيف جمع الضدين، وَسَائِر ضروب المحالات، فَهَذَا فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة.
فَأَما تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة فقد اخْتلف النَّاس فِيهِ فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم أهل الْحق من الْفُقَهَاء، والمتكلمين جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة وَإِلَيْهِ صَار الشَّافِعِي، وَابْن سُرَيج، ولطبري، والأقفال، والشاشي، ثمَّ عمموا القَوْل فِي تَأْخِير الْبَيَان عَن الْمُجْمل والتخصيص عَن اللَّفْظَة الَّتِي ظَاهرهَا الْعُمُوم.
وأطلقوا هَذَا القَوْل فِي الْأَوَامِر والنواهي، والوعد والوعيد، وَسَائِر ضروب الْأَخْبَار، فمهما لم تمس الْحَاجة كَمَا صورناها سَاغَ إِجْمَال اللَّفْظ إِلَى الْوَقْت الَّذِي يتَحَقَّق الْحَاجة فِيهِ، وساغ ترك التَّنْبِيه على التَّخْصِيص فِي اللَّفْظَة الَّتِي ظَاهرهَا الشُّمُول إِلَى وَقت تَحْقِيق الْحَاجة.
وَصَارَت الْمُعْتَزلَة إِلَى منع تَأْخِير الْبَيَان، وأوجبوا أَن لَا ترد لَفْظَة إِلَّا ويقترن بهَا بَيَانهَا إِذا لم تكن مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا وَإِلَيْهِ صَار كثير من أصحاب أبي حنيفَة وَهُوَ اخْتِيَار ابْن دَاوُد، وَإِلَيْهِ مَال من أصحاب الشَّافِعِي أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَأَبُو بكر الصَّيْرَفِي.
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى الْفرق بَين الْعَام والمجمل فَقَالُوا: اللَّفْظَة الَّتِي ظَاهرهَا الْعُمُوم لَا يسوغ تَأْخِير تخصيصها عَنْهَا، كَمَا لَا يسوغ تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء عَن الْمُسْتَثْنى عَنهُ بِزَمَان يطول، وَأما اللَّفْظ الْمُجْمل فَيجوز أَن يُؤَخر بَيَانه إِلَى وَقت الْحَاجة.
وَذهب بعض النَّاس إِلَى الْفرق بَين الْأَوَامِر، والنواهي، وَبَين الْأَخْبَار فَقَالَ: يجوز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة فِي الْأَوَامِر والنواهي، وَلَا يجوز ذَلِك فِي الْأَخْبَار كالوعد والوعيد وأنباء الْآخِرَة. فَلَا بُد أَن ترد مفصلة مُسْتَقلَّة.
وَالطَّرِيق أَن نقدم شبه الْمُخَالفين.
شُبْهَة لَهُم: فَإِن قَالُوا: لَو جَوَّزنَا وُرُود المجملة ثمَّ سوغنا تَأْخِير بَيَانهَا عَنْهَا كَانَ ذَلِك نازلا منزلَة مُخَاطبَة الْعَرَب بلغَة الْعَجم فَإِنَّهُم كَمَا لم يفهمومها لَا يفهمون مَا خوطبوا بِهِ من الْمُجْمل فَكَمَا يَسْتَحِيل مخاطبتهم بلغَة لَا يعرفونها وَجب أَن يَسْتَحِيل مخاطبتهم بمجمل.
وأوضحوا ذَلِك بَان قَالُوا: لما لم يسغْ مُخَاطبَة الْمَيِّت والجماد وَمن لَا يعقل لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر أَن يفهم مَا خُوطِبَ بِهِ، فَكَذَلِك شَأْن الْعَرَب إِذا خوطبت بمجمل.
فَيُقَال لَهُم: بنيتم أصل دليلكم على منع مُخَاطبَة الْعَرَب بلغَة الْعَجم وَقد زللتم فِيهِ فَإِن هَذَا من المجوزات عندنَا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَبْعُوث إِلَى الْعَرَب والعجم وَكَانَ مَا يبدر من الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة إلزاما للْعَرَب والعجم وفَاقا.
فَإِذا سَاغَ مُخَاطبَة الْعَجم بلغَة الْعَرَب لم يبعد عَكسه.
فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا يخاطبون بلغَة الْعَرَب على أَن تترجم لَهُم.
قُلْنَا: فَهَذَا القَوْل فِيمَا الزمتموه، ثمَّ نقُول لَهُم: قد استبعدتم فِي الْخطاب مَا لَا بعد فِيهِ، فَإِن أَرْبَاب الْأَلْسِنَة الْمُخْتَلفَة يتخاطبون بلغاتهم المتباينة وَيقوم بَينهم المترجمون فَلَا يعد ذَلِك متناقضا فِي التخاطب فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا.
وَأما مَا استروحوا إِلَيْهِ من مُخَاطبَة الجماد وَالْمَيِّت فَيُقَال لَهُم: لم زعمتم أَن الَّذِي.. فِيهِ منزل منزلَة مُخَاطبَة الْمَيِّت فَلَا يرجعُونَ إِلَّا إِلَى طرد لَا يثبت بِمثلِهِ الْمَقْصد فِي مسَائِل الْقطع.
ثمَّ يُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَيِّت لَا يتَصَوَّر مِنْهُ التَّوَصُّل إِلَى معرفَة مَا خُوطِبَ بِهِ بطرِيق من طرق وَلَيْسَ كَذَلِك الْمُخَاطب بالألفاظ المجملة. " class="commentLink">(*) فَإِن قيل: يتَوَقَّع أَن يَجْعَل الله للْمَيت حَيَاة ويوفر عَلَيْهِ أَسبَاب التفهم كَمَا يقدر نصب أَسبَاب يتَعَلَّق بهَا إفهام المخاطبين بعد إِجْمَال اللَّفْظ فَلَا فصل بَينهمَا.
قيل لَهُم: إِنَّمَا المستبعد تَوْجِيه الْخطاب على الْمَيِّت مَعَ تَقْدِير بَقَاء مَوته فَأَما على تَقْدِير حَيَاته وعقله فَلَا يستبعد توجه الْأَمر عَلَيْهِ، كَيفَ وَقد قدمنَا أَن الأمريتوجه على الْمَعْدُوم بِشُرُوط تَقْدِير الْوُجُود فَإِذا لم يبعد ذَلِك فَهَذَا على الْبعد أبعد.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: إِذا وَردت لَفْظَة مَوْضُوعَة للْعُمُوم فَلَو جَوَّزنَا أَن تتبين فِي المَال أَن المُرَاد بهَا خُصُوص أفْضى ذَلِك إِلَى محَال وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة فِي موردها مُجَرّدَة، وَمن حكم مثل هَذِه اللَّفْظَة إِذا تجردت أَن يُرَاد بهَا الشُّمُول فَإِذا جَوَّزنَا إِرَادَة الْخُصُوص بهَا فَينزل ذَلِك منزلَة مَا جَوَّزنَا أَن يُرَاد بالمشركين الْمُؤْمِنُونَ، وبالناس الْبَهَائِم إِلَى غير ذَلِك من قلب الْأَجْنَاس فِي المسميات.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بالنسخ فَإِن النّسخ عنْدكُمْ تَخْصِيص زمَان على مَا نقرره فِي أدلتنا، ثمَّ يجوز وُرُود اللَّفْظ الْمُطلق المتناول لكل الْأَزْمَان، وَإِن كَانَ سيبين فِي الْمَآل أَن المُرَاد بهَا بعض الْأَزْمَان، وَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ.
ثمَّ نقُول: الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم لَيست بنصوص فِي اقْتِضَاء الشُّمُول، وَإِن قَدرنَا القَوْل بِالْعُمُومِ، وَلَكِن الْأَظْهر منا اقْتِضَاء الْعُمُوم، وَقد يرد فِي الْخطاب على خلاف إِرَادَة الشُّمُول فَم هَذَا الْوَجْه لم يبعد إِطْلَاقه أَولا وتخصيصه آخرا.
وَمن تَأمل مجاري الْكَلَام لم يستبعد مثل ذَلِك فِيهَا فَإِن الْعَرَب قد تطلق لفظا ينبىء ظَاهره عَن معنى ثمَّ تفسره عِنْد الْحَاجة بِمَا أَرَادَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَسَامِي الَّتِي هِيَ نُصُوص فِي الإنباء عَن مسمياتها فَبَطل مَا قَالُوهُ م.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: إِذا وَردت لَفْظَة مَوْضُوعَة للْعُمُوم فَلَو جَوَّزنَا أَن تبين فِي الْمَآل أَن المُرَاد بهَا خُصُوص أفْضى ذَلِك إِلَى محَال، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة فِي موردها مُجَرّدَة وَمن حكم مثل هَذِه اللَّفْظَة إذاتجردت أَن يُرَاد بهَا الشُّمُول، فَإِذا جَوَّزنَا إِرَادَة الْخُصُوص بهَا فَينزل ذَلِك منا منزلَة مَا جَوَّزنَا اللَّفْظَة للْعُمُوم فَيجب بِالشَّرْعِ الْمصير إِلَى اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهَا، فَإِن كَانَ الِامْتِثَال على فسحة وَتَأْخِير فَلَا يتَحَقَّق اعْتِقَاد فِي اللَّفْظ الْوَارِد على أصلكم، وَأَنه إِن اعْتقد خُصُوصا جوز خِلَافه، وَكَذَلِكَ على الضِّدّ من ذَلِك فَهَذَا سد بَاب الِاعْتِقَاد مَعَ الِاتِّفَاق على لُزُوم الِاعْتِقَاد.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تحكم مِنْكُم فَإنَّا لَا نوجب اعْتِقَاد عُمُوم، وَلَا اعْتِقَاد خُصُوص فِي الْمُتَنَازع فِيهِ.
وَلَكِن يتَوَقَّف الْمُخَاطب وَلَا يجْزم اعْتِقَاد ويعتقد أَن يتَمَثَّل مَا سيبين لَهُ فِي وَقت الْحَاجة، فَبَطل مَا قَالُوهُ، على أَنه ينتفض صَرِيحًا بِمَا قدمْنَاهُ من النّسخ، وَلَا تطرد لَهُم شُبْهَة إِلَّا وينقضها النّسخ بِحَيْثُ لَا يَجدونَ عَنهُ مهربا، فَتنبه لذَلِك واستعن بِهِ على إِيرَاده فِي كل مَوضِع.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا يَسْتَقِيم الْخُصُوص فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ تَسْلِيم إبْطَال القَوْل بِالْوَقْفِ والمصير إِلَى تَجْوِيز تَأْخِير الْبَيَان تورط فِي الْوَقْف وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ إِذا ورد مُجَردا وجوزنا أَن يكون المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فَهَذَا عين التَّرَدُّد فِي مُقْتَضَاهُ وَهُوَ ذهَاب إِلَى الْوَقْف.
قُلْنَا: الْفَصْل بَين المذهبين أَنا نقُول مَعَ القَوْل بِالْعُمُومِ: إِذا وَردت لَفْظَة من الفاظ الْعُمُوم فِي وَقت الْحَاجة حملت على الْعُمُوم عَن انْتِفَاء الْقَرَائِن لَا محَالة.
والواقفية يَزْعمُونَ أَنه مَعَ الْحَاجة لَا يحمل على الْعُمُوم إِلَّا بِدَلِيل من قرينَة وَنَحْوهَا فقد تبين انْفِصَال أحد المذهبين عَن الآخر.
وَكَذَلِكَ إِذا ورد اللَّفْظ مُتَقَدما على الْحَاجة فَلَا يقطع القَوْل بالمقتضى بهَا فَإِذا ارتبت الْحَاجة وَلم يُقيد بتخصيص عرفنَا أَن المُرَاد بهَا الْعُمُوم، والواقفية يَزْعمُونَ أَنا لَا نَعْرِف ذَلِك إِلَّا بِقَرِينَة دَالَّة عَلَيْهِ.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: قَالُوا: لَو جَازَ تَأْخِير الْبَيَان عَن الْكَلَام جَازَ تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء.
قُلْنَا: لم قُلْتُمْ ذَلِك؟ وَمَا دليلكم على وجوب الْجمع بَينهمَا؟ وَلنْ يفلح من تمسك بِمثل هَذِه الشُّبْهَة فِي مثل هَذِه الطّلبَة.
ثمَّ نقُول: وجدنَا كَلَام الْعَرَب يَنْقَسِم إِلَى مُبين وعام فِي ظَاهره يبين خصوصه بعد حِين، وَلَفظ مُشْتَرك بَين معَان يُطلق أَولا ثمَّ يخصص بِأحد احتز الابه بعد زمَان وَمَا وجدنَا فِي كَلَام الْعَرَب إِفْرَاد الِاسْتِثْنَاء عَن الْمُسْتَثْنى فَإِن من قَالَ: رَأَيْت الْقَوْم، ثمَّ قَالَ بعد عصر طَوِيل: إِلَّا زيدا لم يكن ذَلِك منتظما فِي أصل الْكَلَام، وَأما إِطْلَاق الْمُشكل ثمَّ تبيينه بعد زمَان، فَأكْثر من أَن يُحْصى.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: لَو جَازَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل فَلَا نَأْمَن بعد ذَلِك أَن يخترم قبل التَّأْخِير فَيكون ذَلِك تعديدا بتبليغ الشَّرِيعَة؟
قُلْنَا: فَقَوله لَهُ التَّأْخِير إِذا علم أَنه يتَمَكَّن من بَيَانه قبل ان يخترم وَلَا تَقولُونَ كَذَلِك، ثمَّ نقُول: أما نَحن فَلَا نستبعد ذَلِك فَنَقُول: يجوز أَن يتَوَجَّه الْأَمر حَقِيقَة على الْمُكَلف، وَهُوَ فِي مَعْلُوم الله من المخترمين، فَكَذَلِك إِذا جوز لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْخِير الْبَيَان فَيجوز أَن تنطوي عَلَيْهِ الْعَاقِبَة ثمَّ إِذا اخترم لَا يؤاخد بِتَأْخِيرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مجوزا.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي ذَلِك الحكم وَقد اخترم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قُلْنَا: إِن وحدنا طَرِيقا إِلَى التَّوَصُّل إِلَيْهِ بِسَائِر أَدِلَّة الشَّرْع فَذَلِك وَإِن لَا الْأُخْرَى فقد بَان لنا سُقُوط الحكم عَنَّا كَمَا تبين سُقُوط الْوُجُوب عَن الْمُكَلف إِذا اخترم قَطعنَا بتوجهه عَلَيْهِ.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ تَأْخِير الْبَيَان جَازَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُؤَخر ادِّعَاء الرسَالَة.
قيل لَهُ: لَو جوز لَهُ التَّأْخِير وَأمر بِأَن يكتم مَا أرسل فِيهِ مُدَّة فَلَا يستبعد ذَلِك وَإِن أَمر بالتبليغ على الشَّرْع والمبادرة فيتتبع قَضِيَّة الْأَمر على التَّرَاخِي كَانَ أَو على الْفَوْر، فاضمحلت تمويهاتهم وَلَا تغفلن عَن نقض مَا يوردونه بالنسخ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُم عَنهُ منجى.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: إِذا لم تستقل اللَّفْظَة بِنَفسِهَا فِي إِفَادَة معنى فوجودها كعدمها، وَقد أجمع ارباب الْخطاب على أَن الْعبارَة الَّتِي لَا مزية لوجودها على عدمهَا تعد لَغوا، وحسبكم بذلك فَسَادًا فَبِمَ صرتم إِلَيْهِ؟ فَإِن قصارى مذهبكم قادكم إِلَى تَجْوِيز حمل كَلَام صَاحب الشَّرِيعَة على محمل ملغى إِذا حصل عَلَيْهِ.
قيل لَهُم: إِن عنيتم بقولكم أَن وجوده كَعَدَمِهِ فِي أَنه يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَهَذَا كَمَا قلتموه، وَإِن عنيتم بذلك أَنه لما لم يثر معنى يسْتَقلّ بِذَاتِهِ ينزل منزلَة الْمَعْدُوم فِي كل الْمعَانِي، فَهَذَا مَا فِيهِ تنازعنا، فَلم قلتموه؟ وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ ثمَّ نقُول بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن اللَّفْظَة إِذا وَردت غير مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فَيعلم المخاطبون عِنْد موردها أَن لله عَلَيْهِم حكما، ويعزمون على امْتِثَال الْخطاب إِذا تبين لَهُم، وَفِيه ابداء الطَّاعَة والإذعان، والانقياد، وَفِيه أعظم الامتحان، فَمن هَذِه الْوُجُوه لَا تنزل اللَّفْظَة منزلَة عدمهَا.
على أَن مَا قَالُوهُ يبطل بالنسخ.
فَهَذِهِ شبههم، وَله طرق من الْكَلَام آئلة إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ.
ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِذا ثَبت بِمَا قدمْنَاهُ بطلَان كل مَا عولوا عَلَيْهِ فِي ادِّعَاء الاستحالة فَلَيْسَ بَين الاستحالة وَالْجَوَاز رَقَبَة فَإِذا بَطل كل شُبْهَة لَهُم فِي ادِّعَاء الاستحالة فَلَا يبْقى بعْدهَا إِلَّا جَوَاز تاخير الْبَيَان.
عُمْدَة الْقَائِلين بِالْجَوَازِ:
وَمِمَّا عول عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز تَأْخِير الْبَيَان أَن قَالُوا الْمَقْصُود من الْبَيَان فِي الْخطاب أَن يقدم الْمَأْمُور بِهِ على فعل الْمَأْمُور بِهِ كَمَا أَمر بِهِ فَإِذا كَانَ الِامْتِثَال مُؤَخرا عَن وُرُود اللَّفْظ، فَلَيْسَ فِي تَأْخِير الْبَيَان اسْتِحَالَة وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الْقُدْرَة إِنَّمَا شرطت فِي التَّكْلِيف ليتصور من الْمُكَلف الْإِقْدَام على مَا كلف فَلَو كَانَ الْأَمر مُتَقَدما والامتثال مُتَأَخِّرًا فَإِنَّمَا يشْتَرط مُقَارنَة الْقُدْرَة لحَال الِامْتِثَال، فَإِن الْمَقْصُود بِالْقُدْرَةِ الِامْتِثَال، وَكَذَلِكَ سَبِيل الْبَيَان، وَلَا تستقل بك الدّلَالَة إِلَّا بِقَيْد تودعه فِيهَا، فَنَقُول: إِن نَظرنَا إِلَى التخاطب وَمَا يُفِيد مِنْهُ وَمَا يجوز إِطْلَاقه فِيمَا رَأينَا، فَمن التخاطب ألفاظا مشكلة تطلق أَولا ثمَّ تبين بعد حِين، وَمن أنكر ذَلِك فقد راغم نشر اللُّغَة ونظمها، فَلَا استمالة فِي الْإِطْلَاق إِذا، والاستحالة تؤول إِلَى التَّكْلِيف، فَإِن الِامْتِثَال مُتَأَخّر، وَالْبَيَان إِنَّمَا شَرط لَهُ.
وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أصحابنَا أَن قَالُوا: النّسخ تَخْصِيص فِي الزَّمَان، والتخصيص.
فِي الْأَعْيَان ثمَّ يجوز أَن ترد اللَّفْظَة مُطلقَة فِي الْأَزْمَان، وَالْمرَاد بَعْضهَا فَإِن لم يبعد ذَلِك فِي الْأَزْمَان لم يبعد فِي الْأَعْيَان.
قَالَ القَاضِي: وَلَا يَسْتَقِيم منا الِاسْتِدْلَال بذلك فَإِن النّسخ لَيْسَ بتخصيص فِي الْأَزْمَان عِنْدِي وَعند مُعظم الْمُحَقِّقين من أصحابي، وَإِنَّمَا هُوَ رفع حكم بعد ثُبُوته على مَا سنشبع القَوْل فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلَكِن يصعب هَذَا على الْمُعْتَزلَة ويقوى على مَذْهَب من يوافقهم فِي حكم النّسخ.
وَقد تخبطوا فِي التفصي عَن ذَلِك من أوجه:
مِنْهَا: أَنهم قَالُوا: إِطْلَاق اللَّفْظ فِي الْأَزْمَان لَا يمْنَع من اعْتِقَاد وجوب الِامْتِثَال وَإِطْلَاق الْأَعْيَان يمْنَع من ذَلِك.
قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم فَإِنَّهُ إِذا ورد قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين}، فنعلم أَن أمرنَا بقتل بَعضهم ونعتقد ذَلِك على الْجُمْلَة كَمَا نعتقد ثُبُوت الْأَحْكَام فِي بعض الْأَزْمَان على الْجُمْلَة، وَلَا سَبِيل إِلَى اعْتِقَاد ثُبُوت الْأَحْكَام فِي كل الْأَزْمَان مَعَ جَوَاز النّسخ الَّذِي حَقِيقَته تَخْصِيص زمَان، فَلَا فرق فِي ذَلِك إِذا بَينهمَا وَهَذَا مَا لَا مخلص مِنْهُ.
فَلَمَّا صَعب مورد السُّؤَال عَلَيْهِم قَالَ من ادّعى التَّحْقِيق مِنْهُم: لَا فرق بَين التَّخْصِيص والنسخ فَكَمَا لَا يجوز تَأْخِير التَّخْصِيص عَن مورد اللَّفْظ فَكَذَلِك لَا يجوز تَأْخِير النّسخ عَن مورد اللَّفْظ، فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى إِثْبَات حكم دهرا قَالَه مَعَ إثْبَاته فَإِذا انْقَضى فقد رفعته عَنْكُم.
فَاعْلَم أَن هَذَا افتراء من هَذَا الْقَائِل على إِجْمَاع الْمُسلمين وهتك لسخف الْحَقَائِق فَإنَّا نقُول لَهُ: قد ثَبت أَحْكَام فِي صدر الْإِسْلَام وَلم تشعر الصَّحَابَة بِأَنَّهَا ستنسخ، وَجحد ذَلِك يَقُود صَاحبه إِلَى جحد الضَّرُورَة والتواتر.
ثمَّ نقُول لهَؤُلَاء: لَو قدر اللَّفْظ مُقَيّدا بِمَا قلتموه مَا كَانَ ذَلِك نسخا بل كَانَ تأقيتا للْحكم.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الرب تَعَالَى قَالَ: صُومُوا من تفجر الصُّبْح إِلَى غرُوب الشَّمْس فَلَا يُقَال إِن ذَلِك نسخ للصَّوْم بعد غرُوب الشَّمْس، وَهَكَذَا جملَة الْأَحْكَام المؤقتة فِي الشَّرِيعَة فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
فَإِن قَالُوا: لَا نشترط تَبْيِين وَقت النّسخ، وَلَكنَّا نشترط إِعْلَام الْمُكَلّفين أَن الحكم مِمَّا ينْسَخ فِي الْمَآل، وَلَو قدر وُرُود اللَّفْظ مُطلقًا من غير اقتران بِمَا يعلم الْمُكَلف أَن حكمه سينسخ فَلَا يسوغ.
فَيُقَال لهَؤُلَاء: فَهَذَا خرق مِنْكُم للْإِجْمَاع، فَإِن مَا اتّفق عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز النّسخ أَن الحكم الْمُطلق الَّذِي اعْتقد أَرْبَاب الشَّرَائِع أَو غلب على ظنهم تأبده يجوز أَن ينْسَخ، وَاعْلَم أَن هَذَا القَوْل مَا بدر إِلَّا عَن متأخري الْمُعْتَزلَة ومتعسفيهم، فَلَا نراهم يبدونه، بيد أَنا أحببنا أَن نذْكر كل مَا قيل، ثمَّ نقُول لهَؤُلَاء لم يغنكم مَا صرتم إِلَيْهِ عَمَّا أُرِيد بكم فَإِنَّكُم توقيتم الْإِجْمَال، وآثرتم تَصْوِير الْبَيَان فوقعتم فِي أعظم مَا اجتنبتموه، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ إِذا قدر بِأَنَّهُ ينْسَخ فالأوقات بَين ثُبُوت الِامْتِثَال وورود النّسخ غير مضبوطة فَيجوز أَن تمتد أعواما وَيجوز أَن تَنْقَضِي عَمَّا قريب وَلَا يقدم الْمُكَلف على الِامْتِثَال فِي وَقت إِلَّا وَيجوز النّسخ فِيهِ، فقد أعظم الْجَهَالَة، وَلَا فرق بَين أَن يلتزموا الْجَهَالَة فِي كل الْأَوْقَات أَو بَعْضهَا.
ثمَّ نقُول لَهُم: ألستم جوزتم تَقْيِيد اللَّفْظ بِمَا قلتموه فلولا أَن النّسخ يجوز عقلا لما جَازَ تَقْيِيد اللَّفْظ بِهِ فَإِذا اثْبتْ أَن النّسخ من مجوزات الْعُقُول وَكَذَلِكَ سَاغَ الإفصاح بِهِ، فَهَلا جوزتم إِطْلَاق اللَّفْظ والاتكال على جَوَاز الْعقل فِي النّسخ فَبَطل مَا قَالُوهُ واضمحل مَا أصلوه.
وَقد اسْتدلَّ بعض أصحابنَا بآي من كتاب الله تَعَالَى.
مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قرأنه فَاتبع قرءانه ثمَّ إِن علينا بَيَانه}، وحرف ثمَّ للتأخير، فأنبأ ذَلِك عَن تَأْخِير الْبَيَان.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير}.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بقوله فِي مُخَاطبَة بني إِسْرَائِيل: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة}.
ونعلم أَن الله تَعَالَى لم يرد مِنْهُم إِلَّا تِلْكَ الْبَقَرَة المنعوتة بِعَينهَا وَلم يبينها لَهُم أول مرّة حَتَّى تَكَرَّرت مِنْهُم الأسئلة.
وَاسْتدلَّ أَيْضا بقوله تَعَالَى فِي قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام: {إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق}
وَوجه الدَّلِيل من ذَلِك أَنه فهم من الْوَعْد السَّابِق مَا يَقْتَضِي تنجية ابْنه الْهَالِك، وَلَوْلَا ذَلِك لما قَالَ مَا قَالَ، ثمَّ بَين لَهُ فَدلَّ ذَلِك على جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان.
وَهَذِه الظَّوَاهِر وَإِن كَانَت رُبمَا تظهر فنتبع أَدِلَّة أولى، فَالْأَحْسَن فِي ذَلِك أَن نقُول: نَحن نعلم أَن الْخطاب بِالْحَجِّ لما ورد لم يبين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جملَة الْمَنَاسِك فِي مجْلِس وَاحِد بل كَانَ يُبينهُ على مر الْأَيَّام وَكَذَلِكَ الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَنحن نعلم أَن مَا بَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن ابْتِدَاء حكم لم يردهُ إِلَّا لَهُ بِأَصْل الْأَمر بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَمَا كَانَ ذَلِك أحكاما تتجدد وَلَكِن كَانَ ذَلِك تبيينا مِنْهُ وَلَو اقصصت موارد الشَّرِيعَة وجد ت كلهَا أَو جملها جَارِيا على هَذَا الْمنْهَج، وَهَذَا مِمَّا يقوى الِاعْتِصَام بِهِ وكل مَا تمسكنا بِهِ فِي الْأَوَامِر، والنواهي يطرد فِي الْوَعْد والوعيد بل الْوَعْد والوعيد بالإجمال أولى من حَيْثُ أَنه لم يتَعَلَّق بهما... وامتثال وإقدام أَو كف، فَإِذا سَاغَ الْإِجْمَال فِي الْأَوَامِر والنواهي، فَلِأَن يسوغ فِي الْوَعْد والوعيد أولى، وَلَيْسَ للْقَوْم شُبْهَة يعجز عَن التفصي عَنْهَا بعد مَا أحطت علما بِمَا قدمْنَاهُ.

.فصل:

الْخطاب إِذا بَين بعضه فَلَا يدل ثُبُوت الْبَيَان فِي بعضه على قصر الحكم فِيمَا بَين، ويجوزه ثُبُوت بَيَان بعد بَيَان مَعَ تخَلّل الْأَزْمَان، كَمَا يجوز تَأْخِير أصل الْبَيَان عَن اللَّفْظ، وَبَيَان ذَلِك بالمثال أَن الرب تَعَالَى لَو قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْركين عِنْد انسلاخ الشَّهْر، ثمَّ قَالَ بعد زمَان: إِذا كَانُوا حربيين ثمَّ اتَّصل بالمخاطبين بعد زمَان التَّقْيِيد بالوثنيين، ثمَّ التَّقْيِيد بِالرِّجَالِ، وكل ذَلِك يسوغ وَلَا يتَضَمَّن ثُبُوت ضرب من الْبَيَان انحسام بَاب توقع الْبَيَان.
وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْعُمُوم الَّذِي يتَّصل بِهِ ضروب من التَّخْصِيص فِي أزمنة متباينة، فَكَذَلِك نقُول فِي الْمُجْمل إِذا بَين بعض المُرَاد بِهِ، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده}.
فَلَو قَالَ إِذا بلغ خَمْسَة أوسق، ثمَّ قَالَ: وَكَانَ مِمَّا يقتات، ويستنبت إِلَى غير ذَلِك من تتَابع ضروب الْبَين كَانَ ذَلِك سائغا وكل ذَلِك قبل الْحَاجة كَمَا قدمْنَاهُ.
وَذهب بعض من جوز تَأْخِير الْبَيَان إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَى أَنه إِذا ثَبت بَيَان بعد تقدم اللَّفْظ فَلَا يجوز ثُبُوت الْبَيَان بعده.
وَمن الْعلمَاء من فصل بَين الْمُجْمل وَالْعَام فَقَالَ: إِذا خص بعض الْعُمُوم لم يرقب بعده تَخْصِيص وَإِذا بَين الْمُجْمل سَاغَ توقع بَيَان آخر.
وَمَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة فِي الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة يعود فِي هَذِه وكل مَا يتمسكون بِهِ، فَوجه التفصي عَنهُ مَا سلف.
وَذهب بعض النَّاس إِلَى مَا بَين من الْأَلْفَاظ إِنَّمَا يرقب بَيَان آخر إِذا علم صَاحب الشَّرِيعَة الْمُكَلّفين أَن فِيهِ بَيَانا متوقعا.
فَأَما إِذا اتَّصل الْبَيَان بالمكلفين من غير إِشْعَار وإعلام فِي توقع الْبَيَان فَلَا يترقب بَيَان آخر وَهَذِه تحكمات تحسمها طرق الْأَدِلَّة.

.باب الْكَلَام فِي حكم أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:

قد قدمنَا فِي صدر الْبَاب مَا يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف فِي أفعال الْمُكَلّفين وَمَا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ مِنْهَا، فَذَكرنَا أَن أفعال النَّائِم والساهي، والمغشي عَلَيْهِ وكل مَا لَا يعقل لَا يدْخل تَحت الْخطاب، فَأَما أفعال العامدين الْعُقَلَاء فَلَا تَخْلُو عَن وجوب أَو ندب، أَو حظر، أَو إِبَاحَة، وَقد قسمنا القَوْل فِيهَا فِيمَا سبق.
وَأما أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أجل الْمُكَلّفين قدرا، وأرفعهم خطرا فَفِي أفعاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبَاح الْمَأْذُون فِيهِ، وفيهَا الْوَاجِب المفترض، وفيهَا الْمَنْدُوب إِلَيْهِ الْمُسْتَحبّ.
فَأَما الْمَحْظُور الْمحرم فيبتني على أصل لَا بُد من الْإِيمَاء إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ من أصُول الديانَات نستعين بِهِ فِي خلل الْكَلَام.
فَاعْلَم أَن عصمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِبَة فِيمَا يَلِيق بِمَعْرِِفَة الله تَعَالَى، فَلَا يجوز عَلَيْهِ مَا يضاد الْمعرفَة وفَاقا، وَكَذَلِكَ يجب عصمته فِي التَّبْلِيغ، فَلَا يجوز عَلَيْهِ تعمد الْخلاف فِيمَا يبلغهُ وفَاقا، وَأما مَا لَا يتَعَلَّق بالتبليغ، فقد اخْتلف ارباب الْأُصُول فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى قطع القَوْل بعصمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّغَائِر والكبائر، ثمَّ افترق هَؤُلَاءِ فرْقَتَيْن: فَذهب بَعضهم إِلَى منع النسْيَان على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يتَعَلَّق بِمَا هُوَ مُتبع فِيهِ، وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَجْوِيز الصَّغَائِر مَعَ وجود الْعِصْمَة عَن الْكَبَائِر، وَادعوا امْتنَاع ذَلِك عقلا مَعَ ثُبُوت النبوه، وَزَعَمُوا أَن النُّبُوَّة كَمَا تنَافِي ثُبُوتهَا تعمد الْخلاف فِي الْبَلَاغ عقلا، فَكَذَلِك تنَافِي مقارفة الْكَبَائِر.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره وجوب عصمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تعمد الْخلف فِي التَّبْلِيغ عقلا، وَوُجُوب عصمته عَن الْكَبَائِر إِجْمَاعًا واتفاقا وسمعاً وَقد اتّفقت الْأمة على وجوب عصمَة الرُّسُل عَن الْكَبَائِر الواضعة من أقدارهم نَحْو السّرقَة، وَالزِّنَا وَنَحْوهمَا، وَهَذَا اثْبتْ إِجْمَاعًا، وَلَو رددنا إِلَى الْعقل لم يكن فِيهِ مَا يمْنَع ذَلِك.
فَإِن قيل: فِي الْعقل مَا يمْنَع ذَلِك فَإِن امْتِثَال هَذِه القاذوريات لَو قدر بدورها من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام لاقتضت تنفير الْأَنْفس عَن الِاتِّبَاع.
فَيُقَال: هَذَا مِمَّا لَا يسوغ التعويل عَلَيْهِ، فَإنَّا نجوز على قَضِيَّة ثُبُوت أَحْوَال الْأَنْبِيَاء لَو قَدرنَا إبدالهما كَانَت النُّفُوس إِلَى تَابعهمْ أميل.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتِّفَاق ألأصحاب على أَنه كَانَ يجوز أَن يكون الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاعِرًا يخط بِيَمِينِهِ، وَيقْرَأ وَيكْتب وَلم يكن ذَلِك من العزائم المتحتمة وَإِن كُنَّا نعلم أَنا لَو قَدرنَا ذَلِك رُبمَا ينطوي على ضروب من التنفير.
وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الْأَنْبِيَاء تميزوا بالمعجزات عَن أغيارهم، والمعجزة تدل على تصدقهم فِي تبليغهم، وَلَيْسَ فِيهَا اقْتِضَاء عصمتهم، فَثَبت بذلك أَنا ثبتنا مَا ثبتنا بقضية الْإِجْمَاع دون دلَالَة الْعقل.
فَإِن قيل: فخبرونا هَل تجب عصمَة الْمَلَائِكَة؟
قُلْنَا: أما الرُّسُل مِنْهُم فَالْقَوْل فيهم كالقول فِي الْأَنْبِيَاء، وهم فِي حق الْأَنْبِيَاء كالأنبياء فِي حُقُوق الْأُمَم، وَأما عدا الرُّسُل فقد اخْتلف الْعلمَاء فَمن صائرين إِلَى ثُبُوت عصمتهم تمسكا بقوله تَعَالَى: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم} فقد صدر هَذَا الْخطاب فيصدر التَّعْظِيم لَهُم، ويخصص آخَرُونَ ذَلِك بالمقربين من الْمَلَائِكَة كالحملة والكروبيين وَنَحْوهم، وَزَعَمُوا أَن طَائِفَة مِنْهُم عصوا فَأَحْرَقَتْهُمْ الصَّوَاعِق والبوارق، فَهَذَا كُله من فن الْكَلَام بيد أَن أَطْرَاف الْكَلَام قد تتصل بِشَيْء، من ذَلِك.
رَجعْنَا إِلَى الْمَقْصُود فَإِذا صدر من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل واقترن بِهِ قَول يُوجب اتِّبَاعه فِيهِ فَيلْزم اتِّبَاعه لقَوْله، وَفعله علم لوُجُوب اتِّبَاعه، وَهُوَ مثل صلَاته مَعَ قَوْله: «صلوا كم رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وحجه مَعَ قَوْله: «خذو عني مَنَاسِككُم» إِلَى غير ذَلِك.
فَأَما مَا بدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما، على الْمَذْهَب الَّذِي يجوز عَلَيْهِ الصَّغَائِر فَلَا يجوز اتِّبَاعه فِيهِ، وَإِن بدر مِنْهُ الْفِعْل مُبَاحا فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ أَنه لَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ وَلَا يسْتَحبّ أَيْضا، وَذهب شرذمة من النَّاس: إِلَى أَن اتِّبَاعه فِيمَا هُوَ مُبَاح فِي حَقه ندب فِي حَقنا.
وَلَو صدر فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي معرض الْقرب، أَو بدر مِنْهُ مُطلقًا، أَو لم يتَقَيَّد بقيود الْقرب وَلَا بقيود الْإِبَاحَة، وتقابلت فِيهِ الجارات فَهَذَا موقع اخْتلَافهمْ فَذهب بَعضهم إِلَى انه يحرم اتِّبَاعه وَهَذَا بِنَاء من هَؤُلَاءِ على أصلهم فِي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَنَّهَا على الْحَظْر، وَلم يجْعَلُوا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علما فِي تثبيت حكم فَيبقى الحكم على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّة الْعقل قبل وُرُود الشَّرَائِع.
وَذهب الْعلمَاء إِلَى أَن مَا صدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِبَاحَة فِي حَقنا.
وَذهب بَعضهم أَنه مَحْمُول على النّدب فَينْدب إِلَى فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَيْهِ صَار أصحاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ.
وَذهب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَأكْثر أهل الْعرَاق مِنْهُم الْكَرْخِي وَغَيره إِلَى أَن مَا نقل من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا فَيجب علينا مثله إِذا لم يمْنَع من الْوُجُوب مَانع، وَبِذَلِك قَالَ ابْن سُرَيج، والأصطخري.
وَابْن خيران.
ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوب على طَرِيقين فَذهب بَعضهم إِلَى أَنا ندرك الْوُجُوب فِيمَا نقل من أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا عقلا، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن تثبيت ذَلِك بأدلة السّمع. وسنومىء إِلَى شُبْهَة الفئتين.
وَذهب الْمُحَقِّقُونَ من أهل كل مَذْهَب إِلَى ان فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا نقل مُطلقًا فَلَا يثبت بِهِ علينا حكم أصلا لَا وجوب، وَلَا ندب وَلَا إِبَاحَة، وَلَا حظر، وَالْحكم علينا بعد نقل فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَالْحكمِ علينا قبل نَقله وَهَذَا مَا نرتضيه وننصره.
فَأَما وَجه الرَّد على الْقَائِلين بالحظر فنستقصيه فِي آخر الْكتاب عِنْد اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَنَذْكُر هَهُنَا مَا يسْتَقلّ بِهِ فَنَقُول: مصير هَذَا الْمَذْهَب يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُض، فَإِن كل مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنقل مُطلقًا لَو كَانَ مَحْظُورًا فِي حقوقنا لزمنا أَن نقُول: إِذا فعل فعلا مرّة وَترك مثله ثَانِيًا فَيحرم علينا الْفِعْل وَالتّرْك جَمِيعًا عِنْد صدورهما مِنْهُ، مَعَ اسْتِحَالَة تعرينا عَنْهُمَا وسنوضح وَجه الرَّد على هَذِه الفئة.
فَأَما من زعم أَن أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقْتَضِي الْإِبَاحَة فِي حَقنا فَيُقَال لَهُ: مَا المعني بِالْإِبَاحَةِ الَّتِي اطلقتها؟ فَإِن عنيت بهَا أَن فعله يتَضَمَّن إدنا لنا فِي الْإِقْدَام على مثله فَهَذَا محَال فَإِن الْفِعْل لَا يكون إِذْنا فِي مثله لَا عقلا، وَلَا سمعا إِذا لم تتقدم موَاضعه على نصب الْفِعْل علما فِي الْإِذْن، ثمَّ نقُول: الْإِبَاحَة ترجع إِلَى إِذن الله تَعَالَى مَعَ نفي اللوم وَالْأَجْر فِي الْفِعْل وَالتّرْك، وَفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدل على ذَلِك.
وَإِن أَرَادَ الصائر إِلَى هَذَا الْمَذْهَب أَن مَا فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يمْنَع مِنْهُ مَانع فِي الشَّرْع، فَلَو اقدم عَلَيْهِ مقدم لم يسْتَحق لوما فَهَذَا مَا نساعدهم عَلَيْهِ، وَهَذَا سَبِيل نفي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع.
فَأَما من قَالَ، فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْتَضِي النّدب فِي حقوقنا فَيُقَال لَهُم: هَذَا بَاطِل، فَإِن فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتبع لَا ينْتَصب علما فِي النّدب على مثله عقلا، إِذا يجوز فِي الْعقل تخصصه بِمَا يحرم على غَيره، وَيجوز تَقْدِير صُدُور الْفِعْل مِنْهُ مُبَاحا وَهُوَ مُبَاح لغيره، وَيجوز تَقْدِير الْوُجُوب أَيْضا، فَإِذا تقابلت هَذِه الجائزات فِي الْعقل وَلَيْسَ فِي فعل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ينبىء عَن تَبْيِين جِهَة من هَذِه الْجِهَات، فَلَا يرتضي أحد وَاحِدَة مِنْهَا إِلَّا ويقابل بِسَائِر الْجِهَات فتتساقط الْأَقْوَال عِنْد تعارضها، فَهَذَا لوادعوه عقلا، وَإِن ادعوهُ سمعا فتخصيص النّدب فِي قَضِيَّة لَا وَجه لَهُ، وَإِن من أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ، وَمِنْه مَا يُبَاح الْإِقْدَام على مثله من غير ندب، فتخصيص النّدب لَا وَجه لَهُ لَا عقلا وَلَا سمعا.
فَإِن قيل: النّدب اقل رُتْبَة من الْوُجُوب، فحملنا الْأَمر على الْأَقَل؟
قيل: هَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن، أَحدهمَا: أَن مَا يتَحَقَّق وَاجِبا فَلَيْسَ فِيهِ معنى النّدب ليقدر النّدب اقل مرتبَة وَأَيْضًا فَإِن الْإِبَاحَة دون النّدب على زعمكم، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
فان قَالُوا: إِنَّمَا الدَّال على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة}، فأنبأ ذَلِك عَن تَحْسِين التأسي بِهِ.
قيل لَهُم: الْوُجُوب ينعَت بالْحسنِ، كَمَا ينعَت النّدب، فَلم كُنْتُم بِالْحملِ على النّدب أولى من غَيْركُمْ إِذا حملوه على الْوُجُوب؟
فَأَما وَجه الرَّد على الْقَائِلين بِالْوُجُوب فيداني وَجه الرَّد على الَّذين سبقوا، فَإنَّا نقُول فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْقَسِم، فَمِنْهُ الْوَاجِب، وَمِنْه الْمُبَاح، ولندب، وَلَيْسَ فِيمَا يصدر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يتَضَمَّن إِيجَابا علينا عقلا، فَإِن الْعقل لَا يَقْتَضِي تعين جِهَة على التَّخْصِيص مَعَ تقَابل الجائزات وتماثل الِاحْتِمَالَات، وَلَيْسَ فِي نفس الْفِعْل الصَّادِر مِنْهُ مَا يُوجب الْإِقْدَام على مثله عقلا، وكل مَا يتمسكون بِهِ من الْأَدِلَّة السمعية فَلَا مستروح فِي شَيْء على مَا سنقرر وُجُوه التفصي عَمَّا يعتصمون.
شُبْهَة الْقَائِلين بِالْوُجُوب. فَإِن قَالُوا: كل مَا يصدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنعلم أَنه مصلحَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ متعبد بِهِ، وَمَا كَانَ مصلحَة لغيره، وَيجب على الْمَرْء تتبع مَصَالِحه.
وَهَذَا واه جدا من أوجه: مِنْهَا: أَن نقُول: من سوغ الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لم يسلم مَا ادعيتموه، وَوجه الْمَنْع فِيهِ بَين.
ثمَّ نقُول: لم زعمتم أَن مَا كَانَ مصلحَة فِي حَقه كَانَ مصلحَة فِي حق غَيره؟ ألم تعلمُوا أَن الرتب تتباين، والمصلحة تخْتَلف باخْتلَاف الدَّرَجَات؟
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّلَاة مصلحَة فِي حق الطَّاهِر، مفْسدَة فِي حق الْحَائِض، وَلَو تتبعنا تفَاوت الْأفعال فِي حق الْمُكَلّفين من الْأَحْرَار وَالْعَبِيد لطال، وَفِي التَّنْبِيه عَلَيْهَا غنية.
ثمَّ نقُول: لَو كَانَ العَبْد يتَمَثَّل أوَامِر سَيّده، ويتجنب مُخَالفَته، فَلَيْسَ من شَرط تَحْقِيق مُوَافقَة ومحاشاة مُخَالفَته أَن يفعل كل مَا يَفْعَله سَيّده، فَبَطل مَا قَالُوهُ وَتبين أَن إِظْهَار الْخلاف إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْأَوَامِر دون الْأفعال.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم - وَهِي عمدتهم - قَالُوا: لَو سَاغَ القَوْل بِأَن اتِّبَاعه فِي أفعاله لَا يجب سَاغَ مثله فِي أَقْوَاله فَإِنَّهُ لَا فصل بَينهمَا.
قيل لَهُم: هَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة، فَلم جمعتم بَينهمَا؟ فَلَا يرجعُونَ عِنْد التَّحْقِيق إِلَى طائل وَتَحْصِيل.
ثمَّ نقُول: بِمَا تنكرون على من يَقُول أَن المعجزات دَالَّة على صدق الرَّسُول عَلَيْهِم السَّلَام، وَقبُول أَقْوَالهم، وَمَا يصدر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَوَامِر فَإِنَّمَا هُوَ فِيهَا مبلغ وَالْأَمر لله تَعَالَى. فَفِي رد أَقْوَاله تسبب إِلَى رد قَضِيَّة المعجزة، وإفصاح برد النُّبُوَّة، وَلَا يتَحَقَّق مثل ذَلِك فِي الْأفعال، فَإِن المعجزة لَا تدل على وجوب اتِّبَاعه فِي جملَة أفعاله، إِذْ المعجزة لَا تدل إِلَّا على الصدْق، وَالْأفعال لَا صِيغ لَهَا، وايضا فَإِن فعله مُخْتَصّ بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء تثبيت مثله فِي حق غَيره، وَأما أَقْوَاله فمتعلقة فِي مقتضاها بالمكلفين، فافترق البابان ثمَّ نقُول: قد بَينا أَن فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التَّرَدُّد فنظيره من القَوْل مَا هُوَ على التَّرَدُّد، وَلَو وردَّتْ لَفْظَة مترددة بَين احتمالات لَا سَبِيل إِلَى الْجمع بَينهمَا، واللفظة حَقِيقَة فِي كل وَاحِدَة مِنْهَا فَلَا سَبِيل إِلَى حمل اللَّفْظَة على بَعْضهَا بل يتَوَقَّف فِيهَا إِلَى الْبَيَان، فَهَذِهِ سَبِيل الْأفعال، فَهَذِهِ عمدهم إِذا زَعَمُوا أَن الْوُجُوب الِاتِّبَاع مُسْتَدْرك عقلا.
وَأما من ذهب مِنْهُم إِلَى أَن ذَلِك يثبت سمعا فقد اسْتدلَّ بآي من الْكتاب مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبعُوهُ}، قَالُوا: وَهَذَا أَمر، وَالْأَمر على الْوُجُوب.
قُلْنَا: لَا نسلم أَن الْأَمر على الْوُجُوب، وَقد قدمنَا فِي ذَلِك صَدرا من الْكَلَام مغنيا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ثمَّ لَا نسلم لكم الْعُمُوم لتعمموا ذَلِك فِي أفعاله واقواله، على أَنا نقُول: ظَاهر الِاتِّبَاع ينبو عَن الطَّاعَة وَلَا تحقق الطَّاعَة إِلَّا فِي امْتِثَال الْأَوَامِر.
وَالَّذِي يحققه مَا قدمْنَاهُ من قَول الْقَائِلين أَن يمْنَع الْأمة وَهُوَ من اتِّبَاعه، وَلَا يعنون بِهِ أَنه يتصدر إذاتصدر وَيفْعل كل مَا يفعل الْآمِر، فَإِنَّمَا يؤول الِاتِّبَاع والامتثال والانقياد إِلَى امْتِثَال الْأَوَامِر.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة}، وَهَذَا لَا معتصم فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يتَضَمَّن تثبيت الْوُجُوب على الْخُصُوص، بل فحوى الْآيَة إِلَى اقْتِضَاء النّدب اقْربْ.
وَمِمَّا يستدلون بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ءاتكم الرَّسُول فَخُذُوهُ}، وَقَوله: {وأطبعوا الله واطيعوا الرَّسُول}.
فَأَما قَوْله: {وَمَا ءاتكم الرَّسُول} فَلَيْسَ فِيهِ مُصَرح بالأفعال فَلم حملتموه عَلَيْهَا؟ وَظَاهر الإيتاء: الْإِعْطَاء دون مَا رمتوه، على أَنه سُبْحَانَهُ قابله بِالنَّهْي فَقَالَ: {وَمَا نهكم عَنهُ فَانْتَهوا} فَدلَّ أَنه عَنى بالإيتاء: الأومر.
وَأما قَوْله: {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول}، فَلَا حجَّة فِيهِ، وَأَن الطَّاعَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا فِي امْتِثَال الْأَمر، وَالْفِعْل لَا يكون أمرا.
وَرُبمَا يستدلون بأخبار أَعْتَصِم فِيهَا الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم بِأفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهَا مَا روى أَنه وَاصل الصّيام فواصله بعض الصَّحَابَة فنهاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاعْتذر بَان قَالَ: واصلنا لما واصلت.
وَمِنْهَا ماروي انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلع نَعله فَخلع الصحاب نعَالهمْ فَهَذَا يدل على اعْتِقَادهم وجوب الِاتِّبَاع.
وَمِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلق عَام الْحُدَيْبِيَة فازدحم النَّاس على الحلاق اتبَاعا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قبل الْحجر ثمَّ قَالَ: أما أَنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر، وَلَا تَنْفَع، وَلَوْلَا أَنِّي رايت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبلك لما استلمتك فاعتصم بِفِعْلِهِ.
وَمِنْهَا: مَا رُوِيَ أَن سَائِلًا سَأَلَ أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا عَن قبْلَة الصَّائِم فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أخبرتيه أَنِّي أقبل وَأَنا صَائِم.
وسئلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن وجوب الْغسْل بالتقاء الختانين فأفتت بِالْوُجُوب وَقَالَت: فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا إِلَى غير ذَلِك من الْأَخْبَار.
وَالْجَوَاب عَنْهَا من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول الْأفعال الَّتِي نقلت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خَصَائِصه وَمَا لم يُتَابع عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا نقلتموه، ثمَّ نقُول: لم زعمتم أَنهم اتَّبعُوهُ فِي مُوجب هَذِه الْأَخْبَار التزاما واستحبابا، وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم استباحوا، وَبِمَ تنكرون على من يزْعم انهم استباحوا بَعْضهَا وَرَأَوا بَعْضهَا ندبا.
ثمَّ نجيب عَن كل مَا تمسكوا بِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا فَأَما حَدِيث الْوِصَال فنهيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتوبيخه لَهُم على اتِّبَاعه أدل الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، إِذْ رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أيقوى أحدكُم على مَا أقوى؟ الحَدِيث.
وَأما خلع النِّعَال فقد كَانَ فِي الصَّلَاة، وَقد كَانَ سبق مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الصَّحَابَة باتباعه فِي الصَّلَاة لما قَالَ: «صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَأما الْحلق وتقبيل الْحجر فَلَقَد كَانَ من جملَة الْمَنَاسِك، وَكَانُوا قد سمعُوا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «خُذُوا عني مَنَاسِككُم».
وَأما حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا فلعلهما أَيْضا اقتديا بقوله، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمَنْقُول فِي حَدِيثهمَا لَيْسَ من الْأفعال المختصة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَيْهَا وَلذَلِك قايسا النَّاس بحكمهما، على أَنا نقُول كَمَا تمسكتم بِهِ آحَاد لَا يسوغ الِاعْتِصَام بِهِ فِي مسَائِل الْقطع، وَالله اعْلَم.